قد يحدث أن شخصاً ما جالسا
في ركنهِ المظلم حاملاً رأسه بيديه مثقلاً بهمومِ عمره الذي لم يتجاوز الخامسة
والعشرين ..ناظراً ببؤس عينيه إلى مآسيه المرة
مقطبا شفتيه التي أطبقت عن
الكلمات .. في نظرته عمقٌ لا نهاية له كبئر ماء بلغت ظلمته البحر اللجي وبينما
هو بصور الحسرات تقفز إحداها فوق الأخرى
إذ به يسمع أصواتا تجئ من
خلف بابه الموصد..يقف مستنداً على يديه كالذي أعياه المرض ونال من جسده الوهن.. يمشي بدون استقامة باتجاه الباب يحاول فهم تلك الأصوات لكنه يعجز عن ذلك فيضطر إلى
فتح الباب محاولاً استراق السمع تروح عيناه هنا وهناك انه يقتنص بعض الصور ويسترق
بعض الكلام ..يغريه الفضول فيخرج رأسه من فتحة الباب لعله يرى أكثر ويسمع أكثر .. إن
هذا الفضول الفطري لديه قد يجعله يتقدم خارجاً من ذلك الباب..رغم ذلك الجمود في
ملامحه إلا انك قد تشعر بلمحة أمل تحفزه .. يخرج وهو يخطو بخطوات مرتبكة لكنها
سرعان ما تثبت وتتقدم بثقة، يرى أزهاراً يحاول شم عبيرها ينظر خلسة هنا وهناك هل
يمكن أن ينتقده احد لكنه شمها بل تنفسها أصبح شذاها يعبق في صدره .. يلمح طيورا
ترفرف بأجنحتها فيبتهج لبهجتها ترتسم على وجهه ابتسامة قل ما الفتها شفتيه
يعدو بقدمين تكاد لا تلامس الأرض ،تلاحق مقلتاه فراشات بألوان السماء وتداعب أجفانه خيوطاً من أشعة الشمس
المتلألأه ،يسمع نغماتٍ كونيه تراقص فؤاده وضحكات أطفال يركضون في شارع الحياة ،
ويقف تحت دوحة قد مدت بأغصانها المثقلة بالخضرة والزهور لتكون ظلا ربانيا من صنع
الخالق،يرفع ناظريه إلى الأعلى ويمد يديه كجناحان يراقصان النسمات،ويدور ككوب
في مجرته السماوية متناغماً مع عناصر الحياة ومتناسقاً مع نسقها وكأن أمه الشمس تمده
بطاقتها الروحية المتقدة تسبيحاً وتعظيماً لخالقها ، لا يخالجه خوف
ولا تخالطه ظنون ، مع كل
نبضة من نبضاته تنبت بذرة في أرض مرويةٍ بالأمل والرجاء تشرق نفسه فرحا وسعادة
ينشر بضحكته السرور في كل حي حوله بل في كل شي حتى ما نعتقده جمادا ، لا شئ جمادٌ
حوله كلهم خَلقُ الرحمن ، تهتز ذرات مكوناتهم حمداً وتهليلاً بأصوات استطاع هو إدراكها ،
كل نغمةٍ في الحياة تزهو بصانعها وهو يزهو بملذات ربه التي أباحها ، لقد انتظم مع
المنظومة الكونية التي لا يخالجها خطأ ولا انحراف
لكن ، قد لا يخرج من ذلك
الباب ، قد يغلب فضوله ويوصد الباب كأشد مما كان قد يركض متخبطا عائداً إلى ركنه
المظلم يجلس فيه واضعاً يديه على أذنيه مطبقا عينيه يرتعد جسده خوفاً من المجهول
تزداد ضربات قلبه اضطرابا ، يتبلل جبينه عرقا ، تتسابق أنفاسه حرقة
لا تجد الدموع لعينيه طريقاً جف نبعها كما جف لعابه ، هو الآن تلتهمه الهواجس تحيره الأفكار، يريد ويخاف يرجو وييأس أحاط روحه
بالمحبطات تفترسه الوساوس
يُشعل القلق رأسه شيبا ،
لقد طلع النهار وهو على حاله ، ذلك النور الذي لا يعرف لغرفته طريق فقد البس زجاج
نافذته جلادا سميكا وأسدل عليها ستائر عازله
، قد يبقى أياماً وأسابيع بل وشهور ، وفجأة يبكي يزلزله الحزن ، يصرخ
يسقط أرضا باكياً بحرقه ، يدفعه حب البقاء للنهوض من جديد دون رغبة منه ، يفتح
الباب أخيراً ويخرج ولكن ليته لم يخرج
فقد رانت على قلبه قسوة الجبابرة
وبلادة الجلادين وحسرة المحرومين ، يخرج بعينين تبث شعاع الكراهية والحقد على ماحوله
كل من هو عكسي هو ضدي لا يلفته طير ولازهر ولا شعاع شمس مشرقه..
انه يعجز عن مجارات الكون..يقف في وجه التناغم راغبا أن يخضع المنظومة لفوضويته كل تغريدة حرام وكل رقصة
عيب ..يؤلف الأحكام ويسن العادات ..كل جميل في نظره مكروه ..كل ابتسامة بدعه ..كل
سنة كونية عقاب .. لا يكتفي يطارد أجنحة تلك الفراشات يمنعها من الرفرفة يخنق حنجرة العصفور،يحرم كل الألوان ويسمح عفوه
بلون واحد هو الرمادي التعيس .. كل شي حوله جماد حتى البشر .. ضحكات الطفولة عنده
لها مغزى خارج عن عرف احكامه..لا يليق بجبروته وطغيانه .. يجب أن يكون الكل مثله
انه لا يحتمل الم أن يوافق احد فطرته السليمة التي فطره الخالق عليها
من وجهة نظره لا مخلوق في
الكون سواه ولا يستحق أن يطوف بالبيت إلا هو..
وما دونه فهو دونه ..ما أبشع
أن نتخيل أن لا يفتح الباب ويخرج بفضول الإنسان الفطري ما أبشع أن ينتظر حتى تزهده
روحه وتعافه نفسه ..حينها تصبح الصورة مشوهه يكون الركن المظلم مسرح النهاية ..
النهاية